منهاج الأصول - ج ٣

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٣

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٨

الآخر محرزا بالوجدان او دلالة دليل التنزيل عليهما بالمطابقة وكلاهما محل نظر ، اما الاول فغير محقق والثاني لزوم الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالى فى آن واحد ودعوى دلالة دليل التنزيل على أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام بتقريب ان دليل حجية الامارة اذا كان دالا دلالة صريحة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع بالمطابقة فقد دل بالدلالة الالتزامية العرفية على تنزيل نفس الامارة منزلة العلم. فيحصل من هذا التنزيل واقع تنزيلي قطعا وبالواقع التنزيلي فيترتب الاثر المترتب على الواقع والقطع به ممنوعة لاستلزام ذلك الدور فان توقف تنزيل التابع على المتبوع ضروري لكونه مقتضى التبعية واما تنزيل المتبوع على التابع في المقام فهو أيضا متحقق اذ لو لاه لكان التنزيل لغوا لأن التنزيل انما هو بلحاظ اثره الفعلي ومن الواضح ان الأثر الفعلي لا يترتب لذي المنزلة إلا اذا انضم اليه باقي الاجزاء لكي يتحقق موضوع الحكم وحسب الفرض ان الموضوع كان مركبا من جزءين ولكن لا يخفى ان ذلك إنما يتم لو قلنا بان التنزيل كان بلحاظ الأثر الفعلي ، واما لو قلنا بكفاية مطلق الاثر ولو كان تقديريا بان يكون دليل التنزيل ناظرا الى المتعلق باعتبار ترتب اثره لو انضم الى العلم وكذا العلم يترتب عليه الأثر لو انضم الى المتعلق وبمجموعهما يترتب عليه الأثر الفعلي فافهم وتأمل.

هذا كله فيما اذا اخذ القطع طريقا محضا (١) أو موضوعا على وجه

__________________

(١) لا يخفى ان الصور المنشأة فى صقع النفس الداخلي هي المعلومة بالذات وباعتبار انطباقها على ما في الخارج يكون الخارج معلوما وقد وقع الخلاف في تلك الصورة المعلومة بالذات فى انها من اي مقولة هل هي من مقولة

٤١

الطريقية تمام الموضوع أو جزئه ، وأما اذا أخذ القطع على نحو الصفتية فلا

__________________

الكيف ام من الفعل ام من الانفعال ام من الاضافة اى اضافة بين العلم والمعلوم ، الظاهر ان كل جهة من تلك الجهات متحققة فى العلم فكل قول يستند الى جهة من تلك الجهات فان نفس انتقاش الصورة فى عالم الذهن تعد من مقولة الانفعال وباعتبار حصولها تعد من مقولة الفعل وباعتبار قيامها في الذهن تعد من مقولة الكيف وباعتبار انطباق الصورة على ما في الخارج المعلوم بالعرض تعد من مقولة الاضافة وقيام الامارة مقام العلم لم يكن بلحاظ الجهات الثلاثة الاول لانها باعتبار تلك الجهات غير قابلة للجعل والتنزيل نعم التنزيل للحاظ الجهة الاخيرة وهذه الجهة ـ اي جهة الاضافة ـ لها اعتباران فتارة تلحظ بما انها محرزة للواقع واخرى تلحظ بما انها يترتب عليها الاثر ، والاول لسان الامارات والثانية لسان الاصول ، وببيان آخر ان للقطع ثلاث جهات جهة تلاحظ نفس الصور المنشأة فى صقع النفس الداخلى وهي المعلومة بالذات ، وجهة اخرى تلاحظ بما انها تحرز الواقع اى تحرز ما هو الموجود في الخارج باعتبار تطابق ما فى الخارج مع تلك الصورة المعلومة بالذات.

وبهذا الاعتبار يكون ما فى الخارج معلوم بالعرض وبتعبير آخر ان الجهة الاولى يلحظ القطع بما انه نور في نفسه ، والجهة الثانية يلحظ القطع بما انه منور للغير ، وثالثة يلاحظ القطع باعتبار ترتب الآثار والجري العملي نحوه.

اذا عرفت ذلك فاعلم ان لسان دليل الامارة ليس ناظرا الى الجهة الاولى من جهات القطع وانما ادلة التنزيل ناظرة الى الجهة الثانية وهي الملحوظة فى جهة الاحراز فبذلك صح قيام الامارة مقام العلم من دون حاجة الى دليل آخر من غير فرق بين القول بان الحجة غير قابلة للجعل وانما هي مجعولة لمنشا انتزاعها كما هو مختار الشيخ (قده) أو انها هي المجعولة ومعنى جعلها هو جعل الاحراز

٤٢

اشكال في عدم قيام الامارة مقامه لعدم وفاء دليل التنزيل بذلك فان أدلة التنزيل بناء على تتميم الكشف يكون مفادها كونها كالعلم في ترتيب آثاره من حيث طريقيته وكشفه وليس لها نظر الى نوريته النفسية وانه صفة كسائر الصفات فحينئذ كيف يصح ان تقوم الامارة مقامه بتلك الادلة. نعم يحتاج في قيام الامارات مقام القطع المأخوذ على نحو الصفتية الى دليل آخر بالخصوص يصحح قيامها مقامه ، ولكن لا يخفى ان هذا النحو وان كان متصورا إلا أنه لم يوجد في الفقه في لسان الادلة اخذ القطع على نحو الصفتية موضوعا للحكم ، وما توهم اخذه بهذا النحو كباب الشهادة والحلف عن بت واخذه في الركعتين الاوليتين ونحو ذلك فانه فاسد ، فان القطع فيها قد اخذ على نحو الطريقية المحضة. هذا كله بناء على تنزيل الامارة منزلة العلم ، واما بناء على تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيشكل قيام الامارة منزلة القطع الموضوعي لما عرفت ان مفادها تتميم الكشف اى كون

__________________

والوسطية في الاثبات كما هو مختار المحقق النائينى (قدس‌سره) وان كان لا اثر عملي يترتب عليه ، واما الاصول التنزيلية فادلتها ناظرة الى الجهة الثالثة اى عبارة عن ترتيب الاثر والجرى العملي على وفقها.

ومنه يعلم حكومة الامارة على الاصل اذ الامارة في مقام احراز الواقع فلا يبقى مجال للاصل الذى هو حكم في ظرف الشك كما ان الامارة لما كانت في مقام احراز الواقع تترتب جميع آثار الواقع من الآثار الشرعية والعقلية بخلاف الاصل فانه في مقام الجري العملي ولا يحرز الواقع فما كان له من الآثار الشرعية يترتب وما كان له اثر عقلي لا يترتب إذ هي مترتبة على الواقع المحرز والاصل لا يجعل الواقع محرزا فافهم واغتنم.

٤٣

الامارة علما بالواقع ولو تعبدا ولذا منعنا حكومة الامارة على الاصول عليه لعدم اثبات كون التنزيل يوجب اثبات العلم بالواقع لكي يرتفع الشك الذى هو موضوع الاصل. نعم يحصل من ذلك العلم الوجدانى بالواقع التعبدي ومجرد حصوله لا يكفي بل يحتاج الى جعل آخر يقتضى تنزيل العلم بالواقع التعبدي منزلة العلم بالواقع الحقيقى وبذلك يظهر الفرق بين القولين اى القول بتنزيل المؤدى والقول بتتميم الكشف ، كما انه يظهر الفرق بينهما في الحكومة فانه على القول بالمؤدى يكون مفادها تنزيل العلم بالواقع الجعلي منزلة العلم بالواقع الحقيقى لما هو معلوم انه مع انتفاء القطع الوجداني ينتفي الحكم المترتب عليه حقيقة فحينئذ كيف تترتب الآثار المرتبة على القطع للظن وليس مفاده إلا توسعة في موضوع الحكم فيترتب الحكم واقعا وليس من باب التوسعة في الحكم ظاهرا لكي تكون الحكومة ظاهرية ويكون التنزيل مفاده كمفاد (الطواف في البيت صلاة) بخلاف ما لو كان مفادها تتميم الكشف بالنسبة الى احكام المتعلق فان القطع بالنسبة اليها طريق محض فتكون الحكومة ظاهرية ، واما بالنسبة الى نفس آثار القطع فالحكومة واقعية كما تقدم بيانه على التفصيل.

هذا تمام الكلام في الامارات. واما الكلام في الاصول فنقول ان الاصول منها ما يكون محرزا كالاستصحاب واخرى غير محرزة كالبراءة ، وهذه الاخيرة انما هي وظائف شرعية في مقام الشك ليست متعرضة للاحكام الواقعية فلا معنى لقيامها مقام العلم لعدم اقتضاء ادلتها لذلك قال الاستاذ في الكفاية : (واما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بادلتها ايضا غير الاستصحاب لوضوح ان

٤٤

المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والاحكام من تنجز التكاليف وغيره) ، واما الاصول المحرزة كالاستصحاب فقد عرفت ان لسان دليله فيه جهة احراز وانه متعرض للحكم الواقعي ولو كان في ظرف الشك فانه من هذه الجهة كالامارة يقوم مقام القطع الطريقى ولكن لا يخفى ان ما ذكر لا يوجب فرقا في ذلك والظاهر ان الاصول بأجمعها تقوم مقام القطع من غير فرق بين كونها محرزة وغيره وكما هو كذلك في بعض النسخ الفرائد باسقاط البعض.

بيان ذلك هو ان ما كان من الاصول العقلية كمثل الاحتياط العقلي ونحوه فانه خارج عن محل الكلام حيث ان مفادها احكام عقلية تدل على حسن العقاب على المخالفة وليس في مقام ترتيب ما للواقع من الآثار لكي يقال بانها تقوم مقام القطع الطريقى وانما الكلام في الاصول التي هي من قبيل البراءة الشرعية خصوصا مثل (كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام) من جعل الحلية الواقعية في مرتبة الشك فيكون من قبيل جعل المؤدى فلا ريب انه يترتب عليها ما يترتب على العلم الطريقي من كونه عذرا عند المخالفة فحينئذ يكون كالعلم بالاباحة فلو فرض ان هناك أصل الزامي لكان يقوم مقام العلم الطريقى في كونه منجزا للواقع وعند المصادفة وعذرا عند المخالفة إلا انه لا وجود له ، هذا مضافا الى ما عرفت منا سابقا بأن مؤديات الاصول كمؤدى الامارات من انها احكام طريقية انشئت لحفظ الواقع ولم تنشأ عن ارادة اخرى من غير فرق بين كونها تنزيلية وبين كونها غير تنزيلية ولو مثل ايجاب الاحتياط فلذا عند المصادفة يكون ذلك الحكم الواقعى الناشئ عن ارادة واقعية هو المطلوب ، وعند عدم المصادفة حكما صوريا لم ينشأ عن ارادة اصلا فبهذه الجهة تقوم الاصول محرزة

٤٥

وغير محرزة مقام القطع الطريقي ، واما قيامها مقام القطع الموضوعي فما كانت غير محرزة فلا اشكال في عدم قيامها مقامه واما المحرزة كالاستصحاب فقيامه مقامه مبني على ان موضوع الاثر في الدليل مرتب على ظرف الانكشاف أو على نفى الشك فان كان الاول فتقوم الاصول مقام القطع ، وان كان الثاني فلا تقوم والظاهر هو الثاني فلذا نختار ان قيامها محل نظر واشكال وان التزمنا ان دليل الاصل التنزيلى يتكفل اثبات اليقين بالواقع في ظرف الشك دون غير التنزيلي ولأجل ذلك يقدم على بقية الاصول.

وبالجملة الاستصحاب فيه جهتان جهة اثبات اليقين بالواقع فهذه الجهة تقدم على سائر الاصول وبجهة كون موضوعه الشك وليس رافعا للشك فبهذه الجهة يتأخر عن الامارة إذ مع قيام الامارة يوجب رفع الشك رفعا تعبديا ولذا تكون الامارة مقدمة عليه وسيأتى له مزيد كلام في المباحث الآتية ان شاء الله تعالى.

الملازمة بين حكم العقل والشرع

المبحث الرابع ينسب الى بعض الاخباريين عدم العمل بالحكم الشرعي الحاصل من الحكم العقلي استنادا الى ان العقل ليس له الاحاطة بكل الامور ، وان دين الله لا يصاب به العقول ، وقد ارجعه بعض الى انكار الملازمة بين حكم العقل والشرع وقبل الشروع في ذكرها ينبغى لنا التعرض لمسألة التحسين والتقبيح العقليين فقد وقع الكلام في مقام التصور اولا فنقول

٤٦

لنا مراتب قد وقع الكلام فيها على سبيل التعاقب بمعنى انه بعد الفراغ عن الخلاف في مرتبة يقع الكلام في المرتبة اللاحقة فأول مرتبة وقع الكلام فيها هو ان الافعال هل تختلف بالنقص والكمال؟ والمراد من النقص كونه ناقصا بحده اى استعداده ناقص وكامل بحسب حده فان الاستعداد الذاتى ان كان كاملا يكون في اعلى عليين ، وان كان ناقصا يكون في أسفل السافلين ، فان (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) ، وبعد الفراغ من هذه المرتبة يقع الكلام في ان هذا الاختلاف هل يقتضي حكم العقل بالحسن والقبح اولا؟ وبعد الفراغ من المرتبة الثانية يقع الكلام في ان العقل حكم بالحسن ام لا ، وبعد الفراغ من المرتبة الثالثة وقع الكلام في انه حكم بالحسن الفاعلي اي جهة الصدور أم لا؟ ومرجع هذه المرتبة الى النزاع المعروف بين المجبرة والمفوضة ، وبعد الفراغ من المرتبة الرابعة يقع الكلام في ان الحكيم لو ادرك هذه المراتب هل يحكم بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع بحيث يكون منشأ لترتب الثواب والعقاب أم لا؟

إذا عرفت هذه المراتب فاعلم ان الذي يتراءى من كلمات الاصحاب من تفسير التحسين والتقبيح الموجود في عنوان المسألة بان العقل يدرك الحسن والقبح بحيث يترتب عليهما الذم والمدح والثواب والعقاب وفي الحقيقة القائل بهذا التفسير يلتزم بجميع المراتب التي ذكرناها فان التزامه بان العقل يدرك الحسن والقبح فلا بد وان يلتزم بالمراتب الثلاث الاول والتزامه بحيث يترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب لا بد له من الالتزام بالمرتبتين الاخيرتين ومقابل لذلك اي الذى لا يقول بهذا التفسير طوائف فمنهم من انكرا صل

٤٧

الاختلاف كما ربما ينسب إلى بعض ، وطائفة ينكر اصل الاقتضاء مع تسليم الاختلاف وينسب ذلك الى بعض الاشاعرة وطائفة ينكر حكم العقل مع تسليم الاقتضاء كما ينسب الى بعض الاخباريين وطائفة يسلم تلك المرتبة ولكن ينكر الحسن الفاعلي وهو جهة الصدور كما ينسب ذلك الى المجبرة وطائفة ينكر الملازمة بين حكم العقل والشرع والمثبت لادراك العقل التحسين والتقبيح بنحو يترتب على الاول الثواب وعلى الثانى العقاب لا بد وان يكون مقابل لجيمع تلك الطوائف ولكن يشكل على هذا التعريف ان البحث عن ذلك يغني عن بحث الملازمة فلم جعلوا الاصحاب الملازمة بحثا آخر غير بحث التحسين والتقبيح فلا بد وان يعرف بشيء لا يدخل تحته مبحث الملازمة بان يراد من التحسين هو اعجاب العقل بذلك الحسن بحيث يترتب عليه المدح ومن التقبيح هو اشمئزاز العقل القبح بحيث يترتب عليه الذم وبذلك ناسب عد الملازمة مسألة اخرى ومن هنا يظهر ان البحث عن الملازمة لا يغني عن البحث عن مسألة التحسين والتقبيح لان ذلك انما يتم لو كان المنكرين للملازمة من قبيل السالبة بانتفاء المحمول مع ان المفروض ليس كذلك فان المنكرين ربما ينكرون ذلك من باب السالبة بانتفاء الموضوع فان من أنكر الملازمة قد يكون من جهة انكار اصل الاختلاف بين الافعال او ينكر اصل الاقتضاء او ينكر حكم العقل بالحسن والقبح أو انكاره من جهة انكار الحسن الفاعلي وكيف كان فالنزاع ان كان في أصل الاقتضاء فالاخباريون من المثبتين وان كان النزاع في حكم العقل بالحسن والقبح فالاخباريون من المنكرين ويؤيد ما ذكرنا من ان المراد من التحسين هو اعجاب العقل والقبح هو اشمئزاز

٤٨

العقل ان الذى ينبغي أن يجعل هذا البحث تمهيدا لمبحث الملازمة هو البحث عن نفس الحسن والقبح الذاتيين وإلا الحسن الذى يستتبع الثواب والقبح الذي يستتبع العقاب هو متأخر عن القول بالملازمة اذ هو مساوق للاطاعة التي هي متأخرة عن الحسن الذاتى. وبالجملة عندنا حسنان سابق على ما يترتب عليه المدح والثواب ، وحسن يستتبع ذلك والذي ينبغي ان يكون مقدمة لبحث الملازمة هو الحسن المساوق لمرتبة الذات ثم لا يخفى ان الحسن والقبح ان كانا بمعنى ان نفس ادراكهما يعجب العقل أو ينفره ولا يحتاج في ادراكهما الى شيء آخر فهما ذاتيان وإلّا فعرضيان مثال الذاتي هو الظلم فان الظلم بنفسه يوجب اشمئزاز النفس من غير حاجة الى ان يتصور شيء آخر لا يقال ان الظلم تارة يكون في محله واخرى لا يكون في محله فليس على الاطلاق العقل يحكم بالاشمئزاز لانا نقول مأخوذ في مفهوم الظلم ان لا يكون في محله واما مثل ضرب اليتيم للتأديب ففى الحقيقة ليس من الظلم واما مثال الحسن الذاتي فقد مثل له بحسن الاحسان. فتحصل مما ذكرنا ان الحسن والقبح تارة يكونان ذاتيين واخرى يكونان عرضيين فليس هما على الاطلاق ذاتيين وليسا على الاطلاق عرضيين. اذا عرفت ذلك فاعلم ان الوجدان حاكم على ان العقل يدرك الحسن الذاتي والقبح الذاتي فان العقل يدرك قبح الظلم لذاته من دون ان يتصور شىء آخر من عادة وغيرها وقد خالف في ذلك بعض الاخباريين فانكروا ان العقل يدرك الحسن والقبح الذاتيين وادعوا ان كل ما يدركه العقل مما يترتب عليه الذم فهو راجع الى المقبحات العرفية وكذلك ادراكه مما يترتب عليه المدح فهو راجع الى المحسنات العرفية ويؤيد ذلك بان هناك موارد مسلمة مثل

٤٩

ما لو اسس قانون واعلن فمن صدقه يمدح ومن لم يصدقه او لم يقبله يذم ويلومه العقلاء وبذلك قد جرت العادة به فادراك العقل الحسن والقبح انما هو من جهة التقبيح العرفى أو التحسين العرفى ومثل ما لو جعل قانون وخالف القانون فان العقلاء يلومونه على المخالفة من جهة جريان عادة الناس على عدم المخالفة ومثل ما لو كان عند الناس متداولا ومعتادا ترك الأكل في الاسواق فلو اكل أحد يلومونه فلذا قيل انه ينافى العدالة لانه يعتبر فيها المحسنات العرفية والمقبحات العرفية التي عبر عنها بمنافيات المروءة وكيف كان فهذه الامور الثلاثة انما تقبح من جهة جريان العادة على عدم المخالفة غاية الامر بالنسبة الى الاولين العادة لها جهة طريقية بخلاف الثالث فان العادة لها جهة موضوعية ولكن لا يخفى ما فيه

بيان ذلك اما الاولين فالتقبيح فيهما يرجع الى كفر المنعم والتحسين فيهما يرجع الى شكر المنعم غاية الامر نفس تطبيق موضوع تلك الكبريين اما بناء ادعائي او اعتقادي وبعبارة اخرى من اعتقد او بنى على ان الجاعل للقوانين أو الجاعل للطرق مخالفته فيه ملامة وموافقته فيه مدح ليس من جهة العادة بل انما هو من جهة انه بنى او اعتقد انه آمر فتكون مخالفته كفرا للمنعم وموافقته شكرا للمنعم وهاتان الكبريان العقل يحكم بهما مع قطع النظر عن العادة وبالجملة العادة محققة لموضوع تلك الكبريين لا انها سببا لحكم العقل والشبهة انما نشأت من هذه الجهة فتخيل ان العادة هي التي صارت سببا لحكم العقل وهذا توهم فاسد فان العادة محققة لحكم العقل وحكم العقل غير متوقف على العادة وغيرها ، واما في الثالث فان انطباق موضوع حكم العقل انطباق على الامور الرسمية قهرى بخلاف الاوليين فان من خالف العادة اما للزوم الضرر

٥٠

أو الهتك فان انطباق ذلك على الامور الرسمية قهرى كما لا يخفى ثم انه لو اغمضنا النظر عن الوجدان فالادلة التي اقاموها للطرفين فاسدة اما ادلة المثبتين فمنها انه لو لم يحكم العقل بالحسن والقبح يلزم افحام الانبياء والتالي باطل.

بيان ذلك ان النبي لو قال انظروا في معجزتي لهم ان يقولوا على ذلك التقدير انه لا ننظر حتى يجب علينا النظر ولا يجب النظر حتى ننظر وهذه المعارضة لا مدفع للنبي عنها وهذا هو معنى الافحام ولكن لا يخفى ما فيه فان وجوب النظر انما هو من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب دفع الضرر فطرى للانسان بل فطري لسائر الحيوانات ولا يحتاج الى حكم العقل وانما هو من الوجدانيات التي لا ينكرها الطرفان ومنها انه لو لم يحكم العقل بالحسن والقبح لزم جواز صدور المعجزة من الكاذب والتالي واضح البطلان بيان ذلك ان عدم جواز صدور المعجزة إلا من الصادق من جهة تصديق الله لدعوته لان تصديق الكاذب قبيح فيمتنع صدوره منه تعالى لعلمه وحكمته وغناه فاذا بطل قبحه ثبت جوازه اذ لا دليل عليه غيره ولكن لا يخفى ما فيه فان هذا يرجع الى نقض الغرض فان المولى لما كان غرضه بيان صدق الصادق وكذب الكاذب فتصديق الكاذب نقض لذلك الغرض وهو أمر قبيح يرجع الى قبح اجتماع الضدين الذي يحكم العقل بقبحه من غير حاجة الى حكم العقل بالحسن والقبح المترتب عليهما المدح والذم والثواب والعقاب ومنها انه لو لم يحكم العقل بالتحسين والتقبيح لزم عدم الوثوق بما جاء به النبي (ص) من الاحكام من معاد وغيره فان الاحكام انما تثبت من الاخبار ونحن تحتمل صدور الكذب فيها فمع هذا الاحتمال كيف نثق بالأخبار ولكن لا يخفى فان ذلك يرجع الى الدليل السابق وقد عرفت الجواب عنه. واما ادلة النافين فاقوى أدلتهم هو ان التحسين والتقبيح

٥١

من الكيفيات ومتعلقهما لو حكم به العقل من الافعال وهو أيضا من مقولة الاعراض فحينئذ كيف يقوم العرض بالعرض وهذا مراد من قال بانه يلزم قيام المعنى بالمعنى لو حكم به العقل ولكن لا يخفى انه يرد عليه أولا بالنقض في مثل الارادة فانها من الكيفيات مع ذلك تتعلق بالافعال وثانيا بالحل فان التحسين والتقبيح من عوارض الصور المرتسمة في النفس وهى أيضا من العوارض الكيفية فمقولة الكيف تعلقت بمقولة الكيف ولها جهة اضافة الى الخارج أي بما ان تلك الصور حاكية عما في الخارج فتعلق التحسين والتقبيح بالخارج بنحو اضافة فاذا عرفت ان الحق هو ان التحسين والتقبيح يحكم بهما العقل فحينئذ يكون لنا مجال لمبحث الملازمة وإلّا لو قلنا بمقالة النافين فلا مجال له أصلا فنقول وقع الكلام في مسألة الملازمة اي لو حكم العقل بشيء يلزمه ان يحكم الشارع به وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم مقدمة بها يتضح المقصود وهى ان حكم العقل بالمصلحة مقتض لحكم الشارع لا على نحو العلية التامة فتكون تلك المصلحة بالنسبة الى حكم الشارع من قبيل المقتضى الذي يرتفع لوجود المانع فحينئذ لا بد من احراز عدم المانع والمزاحم حتى يترتب حكم الشارع والموانع والمزاحمات تارة تكون داخلية أي لها دخل في أصل تحقق ادراك العقل الحسن الذاتي واخرى تكون خارجية وهذه المزاحمات الخارجية تكون بعد الفراغ عن عدم مزاحم ذاتي وحينئذ نقول ان المزاحم الخارجي يكون تارة مثل وجود ضد أهم واخرى ليس كذلك وثالثة يكون في الانبعاث عن الارادة ورابعة يكون في نفس ارادة المولى فهذه المراتب طولية والاخيرة منها انما يكون لها مجال بعد الفراغ عن سابقتها والمثبت يلتزم بجميع هذه المراتب.

٥٢

اذا عرفت ذلك ذلك فاعلم انه وقع الكلام في كل مرتبة مرتبة اما الاولى فيمكن نفي المزاحم الداخلي بحكم العقل بحسن الشيء فانه لما حكم بان في الشيء حسنا يستكشف انه لا مزاحم داخلى فاذا وقع فالعقل لا يحكم واما بالنسبة الى المرتبة الثانية وهو احتمال المزاحم الخارجي من ضد أو مثله فان قطع بعدم وجود ذلك المزاحم فالعقل يحكم بحسنه ويلومه على تركه واما مع احتمال وجود المزاحم الخارجي فلا يحكم بالحسن ولا يلوم على تركه اللهم إلّا ان يقال بان نفس هذا الاحتمال لا يوجب رفع الملازمة على الترك بل يأتي به بداعي الرجاء حيث انه يحتمل عدم وجود المزاحم فهذا الاحتمال يكون منجزا وهذا هو شأن الاحتياط بانه حسن فان حسنه متحقق مع تحقق احتمال المزاحم ولا ينافي ذلك ما ذكره شيخنا الانصاري (قدس‌سره) بان العقل لا يدرك جميع المقبحات والمحسنات حتى يحكم بحسنه او قبحه لما عرفت بان حكم العقل بالحسن ليس من جهة ادراكه لرفع جميع الموانع المقبحة بل من جهة كون نفس احتمال عدم وجود المزاحم هو منجز ، فعلى هذا يمكن منع الملازمة (١) بين حكم العقل

__________________

(١) لا يخفى ان بحث الملازمة تتم في بيان جهات كل جهة تعد مقدمة لما بعدها الاولى ذهبت الاشاعرة الى عدم الحسن والقبح الواقعيين وان الاحكام لا تنشأ من المصالح والمفاسد بل كل ما يحسنه الشارع يكون حسنا وكل ما يقبحه الشارع يكون قبيحا اذ الاحكام لا تنشأ إلا عن ارادة وكراهة فحينئذ لا مجال لحكم العقل بحسن شيء لكي يستكشف منه الحكم الشرعي حتى يقال بالملازمة إذ لا موضوع لها وأنت خبير بفساد هذه المقالة اذ العقل يستقل بقبح بعض الاشياء من دون ملاحظة شرع أو شارع مضافا الى أن لازمه ان تنشأ الاحكام

٥٣

والشرع حيث ان العقل قد حكم مع تحقق هذا الاحتمال ويحتمل ان الحكيم على

__________________

الشرعية جزافا فيجب هذا دون ذاك أو يحرم هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ولذا التزم بعض المحققين كالامام الفخر بان الاحكام تنشأ عن مصلحة نوعية وهى التي أوجبت تشريع الاحكام التى منها محرمة ومنها واجبة ومنها مكروهة ومنها مستحبة المتعلقة تلك الاحكام بطبيعة المأمور به أو المنهي عنه وان كانت بالنسبة الى الافراد متساوية الاقدام عندهم ترجيح بعض الافراد على بعض من دون مرجح بعد ما فرض وجود المرجح الذى أوجب تعلق الحكم بالطبيعة كتناول أحد الرغيفين أو سلوك أحد الطريقين اختيارا بلا مرجح.

الثانية بعد الفراغ عن تحقق الحسن والقبح بالنسبة الى بعض الاشياء إلا انه ذهب بعض الى ان العقل لا يحكم بالحسن والقبح لعدم احاطته بالمحسنات والمقبحات وانما نستكشف الحسن والقبح من الشارع فعليه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي الذى هو ملاك القول بالملازمة لعدم تحققه وفيه ما لا يخفى انا لا ندعي الايجاب الكلي وانما ندعي الايجاب الجزئي بمعنى ان العقل يحكم بحسن وقبح بعض الأشياء مثلا الظلم العقل يحكم بقبحه ويحكم بحسن الاحسان وإلّا يوجب عزل العقل عن الادراك ولازمه هدم أساس اثبات الصانع وافحام الانبياء وابطال كل شيء إذ كل دليل لو لم يرجع إلى العقل فليس بدليل وانما دليليته بالعقل.

الجهة الثالثة بعد البناء على ان العقل يحكم بالحسن والقبح فقد ذهب بعض الى انكار الملازمة باعتبار منع تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المأمور به بل يكفي تحققها في نفس التشريع كالاوامر الامتحانية وفيه ما لا يخفى اما اولا ان كلامنا في الاحكام الواقعية الناشئة عن ملاكات موجبة لتشريعها

٥٤

الاطلاق قد اطلع على المزاحم فلذا لم يحكم فحصل التفكيك بالنسبة الى هذه

__________________

فحينئذ لا معنى لكون الملاك بالنسبة الى الاحكام الواقعية في التشريع وثانيا ان الاوامر الامتحانية أيضا ناشئة عن ملاك متحقق في المتعلق فان من امر شخصا بقتل ليس غرضه القتل ففى الحقيقة لم يامره بالقتل بل بمقدماته وقد يدفع الملازمة بانه وان حكم العقل بحسن أو قبح إلا ان في الواقع له مزاحم قد اختفي عن العقل وبما ان الشارع مطلع على الواقع وقد اطلع على المزاحم لذا لم يحكم على طبق العقل ولعله المراد بقوله (سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا) وبذلك احتج صاحب الفصول للقول بعدم الملازمة لاجل هذا الاحتمال إلّا انه اجاب عن ذلك بانا لا نقول بالملازمة الواقعية ولكن لا مانع من الالتزام بالملازمة الظاهرية ولكن لا يخفى ان وجود هذا الاحتمال مع تحقق حكم العقل باحاطة جميع ما له دخل في الملاك مما لا يجتمعان ولا يكون مصداقا للاخبار الدالة على السكوت لانه لما كان العقل رسولا باطنيا ومبلغا فلا يكون ما يستقل به مسكوتا عنه بل يكون حاله من هذه الجهة حال الرسول الظاهري واما الملازمة الظاهرية الذى ادعاها صاحب الفصول ممنوعة إذ مع فرض تسليم احتمال وجود المزاحم كيف يستكشف منه حكم الشرع ولو ظاهرا.

وبالجملة مع تحقق هذا الاحتمال لا يمكن حكم العقل بشيء ومع حكم العقل بحسن شىء أو قبحه لا يبقى مجال لدعوى احتمال وجود المزاحم كما لا يخفى واما كلام الاخباريين فلا يبعد انه ليس نظرهم إلى انكار الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل وانما نظرهم إلى الاخبار الدالة على مدخلية تبليغ الحجج صلوات الله عليهم في الاحكام واما الاحكام غير المتلقاة عنهم ليس هو حكم الله وهذه الدعوى وان امكن تصحيحها بمعنى انه يمكن تقييد الاحكام

٥٥

المرتبة وبعد الفراغ من المرتبة الثانية يقع الكلام بالنسبة الى المرتبة الثالثة وهي المزاحمات في نفس الايجاد والانبعاث عن تلك الارادة لان الارادة المحركة لا تتعلق بالشيء الفاسد وانما الارادة المحركة تتعلق بالشيء الذى فيه مصلحة فاذا حكم العقل بحسنه اي لم يكن فيه مزاحم داخلي ولا خارجى فلا يستكشف منه تحقق الارادة المحركية لما ذكرناه فاذا لم يستكشف فلا ملازمة واما لو التزمنا بهذه المرتبة فيقع الكلام في المرتبة الأخيرة وهي المزاحمات في نفس البعث والارادة.

فنقول لا اشكال ولا ريب انه بالالتزام بالمراتب الثلاثة الاول نستكشف تحقق الارادة الواقعية التي هي في نفس المولى فحينئذ هل الانبعاث والتحريك نحو المراد يحتاج الى بعث ام لا؟ والمراد بالبعث هو بروز وظهور تلك الارادة فحينئذ يقع الكلام في ان هذا البعث له موضوعية في مقام المحركية ام لا فنقول لا اشكال ولا ريب انه بالنسبة الى المعاملات فنفس البعث له موضوعية وإلا نفس الرضا بالبيع والصلح وغير ذلك لا يكفى بل يحتاج في العقود الى ابراز الرضا من الطرفين بايجاب وقبول وفي الايقاعات يحتاج الى ابراز الرضا من

__________________

بالتبليغ عنهم بنحو نتيجة التقييد لكونها من الانقسامات الثانوية التي لا يمكن فيها التقييد اللحاظي والانصاف ان الناظر إلى تلك الاخبار يجدها انها ليست في مقام التقييد بل واردة في قبال اعدائهم الذين غصبوا حقوق أهل البيت وعزلوهم عن المقامات الرفيعة ودالة على ان الاعمال لو لا التمسك بهم تكون كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء وقد استوفينا الكلام في تقريراتنا لبحث الاستاذ المحقق النائينى (قدس‌سره).

٥٦

طرف واحد واما بالنسبة الى الاحكام والتكاليف لا يحتاج الى التحرك الى متعلقها أي ظهور وبروز بل نفس العلم بتحققها في نفس المولى يكفي كمن يعلم ان المولى يحتاج الى ماء ولكن له مانع لا يمكن له ابراز ارادته فيجب على العبد أن يأتي له بالماء فلو تركه والحال هذه يلومه العقلاء اذا عرفت ذلك فاعلم انه يمكن لنا انكار الملازمة لو التزمنا بالمرتبة الثانية أو المرتبة الثالثة من جهة حكم العقل بحسنه مع تحقق الامتثال ويلام على تركه مع تحقق احتمال وجود المزاحم واما لو تعدينا عن المرتبة الثالثة وقلنا بتحققها لا بد من الالتزام بالملازمة لما بيناه سابقا واما دعوى انه يمكن حكم العقل بالحسن بالنسبة الى المرتبة الثالثة لا من جهة وجود الاحتمال حتى يمكن منع الملازمة بل من جهة الترتب حيث انا نعلم بحسنه اما من جهة نفسه حسن على الاطلاق أو حسنه منوط بعدم الاتيان بالاهم ففي ظرف عدم الاتيان بالاهم هو حسن ولكن لا يخفى ان ذلك لا يجزى إلا إذا كان المزاحم هو الاهم واما لو كان باقى المرجحات غير الأهم كانت موانع من حسنه فلا يجري الترتب فتحصل مما ذكرنا ان المنكرين للملازمة لا بد ان يخدشوا في المرتبة الثانية والثالثة والانصاف انه لا تترتب ثمرة على القولين لانه على عدم القول بالملازمة الثمرة عدم تحقق الملامة على الترك لأن الملامة انما تكون لحكم الشارع فمع عدم استكشاف حكم الشارع كيف تتحقق الملامة وعلى القول بالملازمة تتحقق الملامة من جهة تنجز هذا الاحتمال وبعبارة اخرى ان الثمرة تترتب على القولين إذ على القول بعدم الملازمة يجب الاتيان في صورة الشك بتحقق الحكم الشرعي لتنجز الاحتمال المانع من جريان قبح العقاب بلا بيان إذ بتنجز الاحتمال يوجب كونه بيانا فيرتفع موضوع البراءة نعم هناك ثمرة اخرى وهى انه على القول

٥٧

بعدم الملازمة فيما لو ورد خطاب شرعي على خلاف حكم العقل فلا يجب طرحه حيث انه على ذلك التقدير يكون حكم العقل من باب لا أدري وهو حكم في ظرف عدم العلم فمع مجيء حكم الشارع يرتفع موضوعه من باب الورود بخلافه على الملازمة يجب طرحه وبهذا يمكن توجيه كلام الاخباريين في ان الخطاب الشرعى مقدم على حكم العقل توضيح ذلك هو ان الاخباريين لما التزموا بعدم الملازمة بين حكم العقل وبين حكم الشرع فيكون حكم العقل بالحسن من باب قبح العقاب بلا بيان فمع مجىء خطاب الشرع يكون بيانا فخطاب الشرع لا يعارض حكم العقل بخلافه على القول بالملازمة فانه يوجب طرح الخطاب الشرعى هذا غاية ما يوجه به كلام الاخباريين وهو أحسن ما قيل بان مراد الاخباريين من حكم العقل الظني أو غير ذلك من التوجيهات المخالفة لظواهر كلماتهم هذا كله فيما لو حكم العقل بشيء هل يلازم ذلك حكم الشارع أم لا واما لو حكم الشارع بشيء هل يلازم ذلك حكم العقل أم لا؟ فنقول ما المراد من حكم العقل هل هو عبارة عن نفس اطاعة الاوامر الشرعية أي إذا حكم الشرع بشيء العقل يحكم باطاعته أو هو عبارة عن حكمه بالحسن الذي حكم الشارع به فيكون حكم الشارع مع حكم العقل متعلقهما شيء واحد الظاهر هو الأخير فان الاول خلاف الظاهر اولا وان حكم العقل الذي هو مرتب على حكم الشارع بحسب الظاهر هو الحكم بالملازمة وقد عرفت ان الحكم بالملازمة لا يكون بالنسبة الى الاطاعة ثانيا وبعد معرفة ان المراد هو حكم العقل مع حكم الشارع متعلقهما شيء واحد فحينئذ يقع الكلام هل هناك ملازمة أم لا الظاهر انها متحققة لوجهين الاول الوجدان فان الوجدان يحكم بان ارادة الشارع

٥٨

لا تتعلق إلا بالشىء الذي فيه مصلحة ولو ردع عن شيء لا بد وان تكون فيه مفسدة لأن الارادة من مباديها الحب والحب مثلا لو وصل الى مرتبة يكون عشقا والعشق لا يتعلق بالوجه الذي هو قبيح المنظر وليس إلا انه لا بد وان يكون في المتعلق حسن حتى يتملق به المحبة وكذلك الارادة لانه المفروض ان الشارع حكيم على الاطلاق فاذا كان كذلك فلا بد وان يوجه الارادة الى ما فيه المصلحة الوجه الثاني انه لا اشكال ولا ريب ان بين الارادة والمصلحة ترتب طولى اي متى تحققت المصلحة تعلقت الارادة ولو كان يكفى نفس تحقق المصلحة في الإرادة تكون المصلحة متأخرة عن الارادة فتكون نظير داعوية الامر التي لا يعقل أخذها في المتعلق ثم ان القائلين بانه يكفي تحقق المصلحة في الارادة ولا يحتاج الى تحقق المصلحة في المتعلق فذلك انما التزموا به من جهة أشياء تخيل انها منها كالاوامر الامتحانية حيث ان الغرض منها نفس اصدار الامر وابرازه وهو فيه مصلحة ولكن لا يخفى ان اوامر الامتحانية تارة يكون الامتحان فيها قائما بنفس العمل مثلا يشتري دابة ويركبها لاجل الامتحان فهذا لا اشكال في ان المصلحة ليس في مقام الابراز بل المصلحة في المتعلق واخرى يكون الامتحان في اظهار الامر والظاهر انه لا ينصرف الامر الى العمل بل بمقدماته كمن امر بالقتل وليس غرضه في القتل فان الامر ينصرف الى المقدمات فلا تغفل.

٥٩

مبحث التجرى (١)

المبحث الخامس في التجري والكلام فيه يقع في مقامين المقام الاول في أن من لم يصادف قطعه الواقع هل مخالفته توجب استحقاق العقاب أم لا عقاب إلا على من صادف قطعه الواقع؟ قولان مشهوران اختار شيخنا الانصارى (قده)

__________________

(١) المراد من التجري كلما كان مخالفا للحجة شرعية كانت أو عقلية ولا خصوصية لمخالفة القطع حتى انه لو خالف الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال يعد متجريا ويقابله الانقياد فانه يعتبر ان لا يكون على خلاف الحجة من غير فرق بين ما يكون الانقياد هو مقتضى الحجية كالعمل الموافق للاستصحاب أو القاعدة ونحوهما وبين ما لا يكون كذلك كترك محتمل التحريم أو فعل محتمل الوجوب كما لا يخفى ان البحث في التجري يختلف يمكن ان يقرر في انه يستحق المتجرى العقاب أم لا يستحق فتكون مسألة كلامية ويمكن ان يقرر بان التجرى يوجب قبح الفعل المتجرى به ام لا فتكون مسألة اصولية حيث تستتبع حرمة الفعل وعدمه ويمكن ان يقرر النزاع شرعا في حرمة الفعل فتكون مسألة فرعية فقهية وظاهر القوم جعل النزاع هو الاول ثم لا يخفى ان البحث في التجري ليس منافيا لما ذكرنا سابقا من ان العقل يحكم بوجوب متابعة القطع مطلقا ولو لم يصادف وذلك بملاحظة نفس القاطع نفسه حيث انه لا يرى نفسه مخطأ فلو قلنا العقاب على من أصاب لم يكن تفصيلا في حجية القطع فلا تغفل.

٦٠